يتقاسمون العدس .. صمت الأحفاد أنطق قلب الجد إيثارا

- الجوع مشهد يبكي الإنسانية ويقهر الضمير
- القطاع يسهد كارثة إنسانية تتعاظم كل ثانية
في أحد أزقة غزة المنهكة، جلس رجل مسن فوق حجرٍ بارد، يحتضن صحنًا صغيرًا بالكاد يكفي جائعًا واحدًا. كان وجهه مكدودًا، مجعدًا كالأرض التي لم تعرف المطر منذ شهور، وعيناه الغائرتان تبحثان في السماء عن رحمةٍ تأخرت كثيرًا.
اقرأ أيضاً : لقيمات بعد ساعات انتظار.. وجبة تُشبه النصر في غــزة
حصل على هذا الطعام بعد ساعات من الانتظار أمام إحدى نقاط توزيع المساعدات، لكن الحصّة التي نالها لا تكفي حتى لسد رمق طفل. عاد إلى منزله المتواضع بخطوات متثاقلة، يجرّ قدميه كمن يحمل خيبته على ظهره.
في الزاوية، كان أحفاده الثلاثة ينظرون إليه بأعينٍ جائعة وصامتة، لم يسألوا، لم يتوسلوا، فقط نظروا. عندها فقط، تنهد بعمق، وجلس أمامهم، وقسم الصحن إلى أجزاء صغيرة، ووضع أمام كل طفل لقمة، واحتفظ بأقلّها لنفسه.
قال بصوتٍ بالكاد يُسمع: "أنا شبعت لما شفتكم بتاكلوا."
كان بإمكانه أن يأكل وحده دون أن يلومه أحد، فقد بلغ من الضعف عتيًا، لكنه اختار أن يكون الجائع الأخير في بيته، كما كان دومًا.
في زمنٍ صارت فيه المساعدات لا تكفي ولا تُغني، ظل هذا الرجل مثالًا لصورة فلسطين الأعمق: الكرامة، التضحية، والحب الذي لا يشيخ.
مساء ثقيل
كان المساء ثقيلاً، والظلام الذي خيّم على الغرفة لم يكن فقط غيابًا للنور، بل مرآة لحالهم الداخلي. لم يكن هناك ما يُطهى، ولا ما يُنتظر. صوت معدة الصغير يُسمع في السكون، كأن الجوع أصبح لغة العائلة الجديدة. في زاوية الغرفة، جلست حفيدته الصغيرة
تحتضن نفسها، وهمست بصوتٍ مرتجف: "تيتا، بطني بيوجعني..." فلم تجد الجدة ما تقول، فقط بكت بصمت.
الألم لم يعد في الأجساد فقط، بل سكن الأرواح.. الحزن صار ضيفًا دائمًا، والجوع أصبح عادة يومية، يُقاومونها بالكلمات الطيبة أو بالأمل الذي لم يعد يقنع أحدًا. صاروا يعدّون الأيام لا ليعرفوا التاريخ، بل ليحسبوا كم يومًا مرّوا دون وجبة كاملة.
وفي قلب هذا الجحيم، ظلّ الجد العجوز يتمتم بدعاء خافت: "يا رب، لا أريد شيئًا لنفسي، فقط احفظهم من الموت جوعًا..." وكان يغمض عينيه ليخفي دمعة، لا يعرف إن كانت من شدة الجوع، أم من قهر الأبوة العاجزة.